كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحاصل هذا أن المراد من النظار أصحاب النظر والبصيرة من العقلاء فلا يتوقف ما ذكر على تقدم خلق الملائكة على أن من قال بتقدم خلق العرش والكرسي على خلق الأرض والسموات قائل بتقدم خلق الملائكة بل قيل: إن من الناس من قال بتقدم خلق نوع من الملائكة قبل العرش والكرسي وسماهم المهيمين.
وأنت تعلم أن هذا لا يفيدنا لأن المهيمين عند هذا القائل لا يشعرون بسماء ولا أرض بل هم مستغرقون فيه سبحانه على أن ذلك ليس بالمحقق كما يقوله المعترض أيضًا، وقيل: إن الشيء إذا حدث دفعة واحدة فلعله يخطر بالبال أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فإذا أحدث شيئًا فشيئًا على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة، وقيل: إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة والتثبت أبلغ في الحكمة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن.
{ثُمَّ استوى عَلَى العرش} وهو في المشهور الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو فلك الأفلاك سمي به إما لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإنه يقال له عرش ومنه قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} [يوسف: 100] لأن الأمور والتدبيرات تنزل منه، ويكنى به عن العز والسلطان والملك فيقال: فلان ثل عرشه أي ذهب عزه وملكه وأنشدوا قوله:
إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم ** وأودت كما أودت إياد وحمير

وقوله:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ** بعيينة بن الحرث بن شهاب

وذكر الراغب أن العرش مما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملًا له تعالى عن ذلك لا محمولًا، وليس كما قال قوم: إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب وفيه نظر، والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون، فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور، وفسر الاستواء بالاستقرار وروي ذلك عن الكلبي ومقاتل ورواه البيهقي في كتابه الأسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها.
وما روي عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سئل كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليًا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالًا ثم أمر به فأخرج ليس نصًا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول.
ومن قوله: والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك فكف الكيف عنه مشلولة.
ويدل على هذا ما جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن وهب أن مالكًا سئل عن الاستواء فأطرق وأخذته الرحضاء ثم قال: {الرحمن عَلَى العرش استوى} كما وصف نفسه ولا يقال له: كيف وكيف عنه مرفوع إلى آخر ما قال، ثم إن هذا القول إن كان مع نفي اللوازم فالأمر فيه هين، وإن كان مع القول بها والعياذ بالله تعالى فهو ضلال وأي ضلال وجهل وأي جهل بالملك المتعال، وما أعرف ما قاله بعض العارفين الذين كانوا من تيار المعارف غارفين على لسان حال العرش موجهًا الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حين أشرقت شمسه عليه الصلاة والسلام في الملأ الأعلى فتضاءل معها كل نور وسراج كما نقله الإمام القسطلاني معرضًا بضلال مثل أهل هذا المذهب الثاني ولفظه مع حذف، ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى العرش تمسك بأذياله وناداه بلسان حاله يا محمد أنت في صفاء وقتك آمنا من مقتك إلى أن قال: يا محمد أنت المرسل رحمة للعالمين ولابد لي من نصيب من هذه الرحمة ونصيبي يا حبيبي أن تشهد بالبراءة مما نسبه أهل الزور إليَّ وتقوَّله أهل الغرور عليَّ، زعموا أني أسع من لا مثل له وأحيط بمن لا كيفية له يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته كيف يكون مفتقرًا إليَّ ومحمولًا عليَّ إذا كان الرحمن اسمه والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته كيف يتصل بي أو ينفصل عني؟ يا محمد وعزته لست بالقريب منه وصلًا ولا بالبعيد عنه فصلًا ولا بالمطيق له حملًا أوجدني منه رحمة وفضلًا ولو محقني لكان حقًا منه وعدلًا يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته اهـ.
وقال الألوسي:
وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه، واستوى بمعنى استولى واحتجوا عليه بقوله:
قد استوى بشرى على العراق ** من غير سيف ودم مهراق

وخص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات، ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكًا للأشياء كلها ومستوليًا عليها ونسب ذلك للأشعرية.
وبالغ ابن القيم في ردهم ثم قال: إن لام الأشعرية كنون اليهودية وهو ليس من الدين القيم عندي.
وذهب الفراء واختاره القاضي إلى أن المعنى ثم قصد إلى خلق العرش، ويبعده تعدي الاستواء بعلي، وفيه قول بأن خلق العرش بعد خلق السموات والأرض وهو كما ترى، وذهب القفال إلى أن المراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة واستقامة الملك لكنه أخرج ذلك على الوجه الذي ألفه الناس من ملوكهم واستقر في قلوبهم، قيل: ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه في سورة يونس (3) {ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبّرُ الأمر} فإن {يُدَبّرُ الأمر} جرى مجرى التفسير لوقله: {استوى عَلَى العرش} وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، وذكر أن القفال يفسر العرش بالملك ويقول ما يقول، واعترض بأن الله تعالى لم يزل مستقيم الملك مستويًا عليه قبل خلق السموات والأرض وهذا يقتضي أنه سبحانه لم يكن كذلك، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وأجيب بأن الله تعالى كان قبل خلق السموات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال: شبع زيد إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال: إنه تعالى إنما استوى ملكه بعد خلق السموات والأرض، ومنهم من يجعل الإسناد مجازيًا ويقدر فاعلًا في الكلام أي استوى أمره ولا يضر حذف الفاعل إذا قام ما أضيف إليه مقامه، وعلى هذا لا يكون الاستواء صفة له تعالى وليس بشيء.
ومن فسره بالاستيلاء أرجعه إلى صفة القدرة.
ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلًا سماه استواء كما فعل في غيره فعلًا سماه رزقًا ونعمة وغيرهما من أفعاله سبحانه لأن ثم للتراخي وهو إنما يكون في الأفعال، وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعضهم أن استوى بمعنى علا ولا يراد بذلك العلو بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنًا فيه ولكن يراد معنى يصح نسبته إليه سبحانه، وهو على هذا من صفات الذات.
وكلمة {ثُمَّ} تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء أو أنها للتفاوت في الرتبة وهو قول متين.
وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه إلى الله تعالى فهم يقولون: استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه منزها عن الاستقرار والتمكن، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول إذ القائل به لا يسعه أن يقول كاستيلائنا بل لابد أن يقول: هو استيلاء لائق به عز وجل فليقل من أول الأمر هو استواء لائق به جل وعلا.
وقد اختار ذلك السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وهو أعلم وأسلم وأحكم خلافًا لبعضهم.
ولعل لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى.
{وَهُوَ الذي مَدَّ} أي يغطي سبحانه النهار بالليل، ولما كان المغطى يجتمع مع المغطى وجودًا وذلك لا يتصور هنا قالوا: المعنى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلمًا بعدما كان مضيئًا فيكون التجوز في الإسناد بإسناد ما لمكان الشيء إليه ومكانه هو الجو على معنى أنه مكان للضوء الذي هو لازمه لا أنه مكان لنفس النهار لأن الزمان لا مكان له؛ وجوز أن يكون هناك استعارة بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه فكأنه لف عليه لف الغشاء أو يشبه تغييبه له بطريانه عليه بستر اللباس للملابسة.
وجوز أن يكون المعنى يغطي سبحانه الليل بالنهار، ورجح الوجه الأول بأن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار.
وبأنه يلزم على الثاني أن يكون الليل مفعولًا ثانيًا والنهار مفعولًا أولًا، وقد ذكر أبو حيان أن المفعولين إذا تعدى إليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الأول منهما عندهم كما لزم ذلك في ملكت زيدًا عمرًا، ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيدًا درهمًا فإن تعين المفعول الأول لا يتوقف على التقديم.
ورجح الثاني بأن حميد بن قيس قرأ {يغشى وَهُوَ الذى} بفتح الياء ونصب {الليل} ورفع {النهار}، ويلزم عليها أن يكون الطالب النهار والليل ملحق به.
وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما.
وبأن قوله تعالى: {ءايَةً لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] يعلم منه على ما قال المرزوقي أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فالنهار بالإدراك أولى، وبأن قوله سبحانه: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي محمولًا على السرعة ففعيل بمعنى مفعول أوفق بهذا الوجه فإن هذا الطلب من النهار أظهر، وقد قالوا: إن ضوء النهار هو الهاجم على ظلمة الليل.
وأنشد بعضهم:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ** نطير غرابًا ذا قوادم جون

ولبعض المتأخرين من أبيات:
وكأن الشرق باب للدجى ** ماله خوف هجوم الصبح فتح

وحديث إن التغشية أنسب بالليل قيل: مسلم لو كان المراد بالتغشية حقيقتها لكان ليس المراد ذلك بل المراد اللحوق والإدراك وهذا أنسب بالنهار كما علمت.
والقاعدة المذكورة لا تخلو عن كلام.
على أنه لا يبعد على ما تقرر أن يكون الكلام من قبيل أعطيت زيدًا درهمًا.
والقول بأن معنى الآية أنه سبحانه يجعل الليل أغشى بالنهار أي مبيضًا بنور الفجر بناء على ما في الصحاح من أن الأغشى من الخيل وغيره ما ابيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه، وذكر سبحانه أحد الأمرين ولم يذكرهما معًا كما في قوله تعالى: {يُولِجُ الليل في النهار وَيُولِجُ النهار في الليل} [فاطر: 13] للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير إليه أو لأن اللفظ يحتمله على ما قيل، وقال بعض المحققين: إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر بأخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية.
وجملة {يُغْشِى} على ما قاله ابن جني على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه: {ثُمَّ استوى} والعائد محذوف أي: يغشي الليل النهار بأمره أو باذنه، وقوله جل وعلا: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} بدل من {يُغْشِى} إلخ للتوكيد.
وعلى قراءة الجماعة حال من {الليل} أي يغشي الليل النهار طالبًا له حثيثًا، و{حَثِيثًا} حال من الضمير في {يَطْلُبُهُ} وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من {النهار} على تقدير قراءة حميد أيضًا.
وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الأولى.
وقال بعضهم: يجوز في {حَثِيثًا} أن يكون حالًا من الفاعل بمعنى حاثًا أو من المفعول أي محثوثًا، وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلبًا حثيثًا، وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار على ما قال الإمام وغيره إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهى أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ.